الحرب الوجودية تعبير اكثر ما استعمل في ادبيات حركات الاسلام السياسي الجهادي، خاصة في توصيفهم للصراع العربي الاسرائيلي، وقد أتى في معرض رفض مبدأ الأرض مقابل السلام الذي قبل به العرب، والذي حاولت القوى العالمية تسويقه كحل للقضية الفلسطينية.
الحرب الوجودية تمتاز عما عداها، بأنها تهدف لإزالة الخصم من الوجود، وليس مجرد احتلال ارضه واخضاعه عبر الضم، أو الاستعمار بالقوة.
وقد اتخذت الحروب هذا الطابع الاستئصالي منذ بدء تشكل الكيانات السياسية البدائية قبل حوالي خمسة الاف سنة، حين كانت خسارة المعركة بالنسبة لقبيلة ما او لشعب ما تعني القضاء على وجودهم ككيان، والحاق من عفّ عنه السيف كعبد مملوك للمنتصر.
هذا الواقع استمر حتى بدايات القرن العشرين، وقد اسهمت الحرب العالمية الاولى سنة 1914 في انضاج مبدأ ضرورة وجود قانون دولي حاكم، فكانت عصبة الأمم، وبعدها جاءت الأمم المتحدة كشكل إصلاحي للعصبة.
اليوم عندما تطرح الحركات الاسلامية مفهوم الحرب الوجودية، فإنها في الواقع تعود بالمجتمع الدولي الى تلك العصور المظلمة، حين كانت القوة هي الحاكمة ولا اعتبار للحق أو للعدالة
بغض النظر عن قصور الأمم المتحدة عن تحقيق اهدافها الرومانسية المعلنة، بفعل اطماع الدول العظمى، الا أن للحروب برتوكولات وقوانين تحكمها. وهناك قوانين تضمن سيادة الدول الاعضاء في الامم المتحدة ولا تعترف بالاحتلال سواء كان لجزء او لكل الدولة، وترتب على المحتل واجبات تجاه الدولة التي تم احتلالها.
الحروب التي حدثت وتحدث في العصر الحديث، تتمحور حول الخلاف على مناطق حدودية، او رغبة مجموعة أو عرق ما بالانفصال والاستقلال، أو صراع داخلي ضمن الدولة الواحدة، أو التدخل لإسقاط انظمة تهدد دول أخرى. اما الحرب الوجودية فلا مكان لها في القاموس السياسي المعاصر، لأنها بأحد وجوهها تشكل تهديدا لوجود دولة تكفل الامم المتحدة سيادتها، وجميع الدول الموقعة على ميثاق الأمم المتحدة ملزمة بالتعاون لرد العدوان.
الحرب الوجودية تكون على وجهين:
- حرب معلنة من طرفين على بعضهما البعض.
- حرب معلنة من طرف واحد.
في الحالتين المذكورتين النتيجة المتوخاة (إما قاتل أو مقتول) ولا حلول وسط. ولا فرق في النتيجة لكليهما، لأنه في الحالة الثانية وإن كان الطرف الآخر لا يريد هذه الحرب الا انه اصبح ملزما بإزالة خصمه الذي يهدد وجوده. ولا سبيل للفرار من القدر المحتوم الا تراجع الطرف الأول فكريا عن غايته، ولا يكفي كسره عسكريا، مما يعني ان الحرب فكرية بالأساس، ومتى تراجع الخصم عن فكرته الاستئصالية يكون قد الغى ذاته بنفسه، وبالتالي زالت من الوجود، وهذا ما نراه في حالة المنظمات التي يحتوي اسمها على كلمة التحرير، ثم نجدها تعمد الى مصالحة العدو وتقاسمه على ارضها المحتلة، عندها تفقد كلمة التحرير معناها.
بين اسرائيل و"داعش"
يعاني "حزب الله" وضعاً معقداً في حربيه مع كل من اسرائيل و"داعش" (التكفيريون ضمنًا). والحربان في هذه الحالة وجوديتان، وما يميزهما ان الحرب الاولى اعلنها "حزب الله" على اسرائيل وهي لا تريدها، اما الثانية فقد اعلنها التكفيريون على الحزب وهو لا يريدها.
ففي حين تتمحور عقيدة "حزب الله" حول فكرة ازالة اسرائيل من الوجود، حيث يكرر مراراً وتكرارا ان الحرب معها حرب وجود، وأن لا حدود ولا مجال للإعتراف بوجودها ولو اعترف بها العالم بأسره، نجد أن اسرائيل لم تبادل الحزب الرغبة في إزالته من الوجود، الا من حيث كونه مهدداً عنيداً لوجودها. وهذا ما يظهر من سعيها الحثيث في كل المفاوضات التي اعقبت حروبها المتكررة في 1993-1996- 2000- 2006، لنزع سلاح الحزب الذي يشكل تهديداً حقيقياً لها، وعندها لا تبالي اسرائيل من انضمام الحزب الى نادي شاتمي اسرائيل وكارهيها.
وقد أعلن الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله في غير مناسبة أن عروضا قدمت للحزب تقضي بإحتفاظه بسلاحه شرط التفاهم تحت الطاولة على التخلي عن القضية الفلسطينية، لكنه رفض.
وقد اتى من سقى "حزب الله" من نفس الكأس، التكفيريون يعلنون حرباً وجودية ومن طرف واحد لا على "حزب الله" فقط، بل على اتباع المذهب الشيعي عامة، وقد حاول الحزب تجنب الصراع معهم قبل انفجار الأزمة السورية، وقام بمحاولات لتوحيد جهود جميع المقاومين للاجتياح الاميركي في العراق تحت عنوان "وحدة الجهاديين" وحصر العمليات ضد قوات الغزو وتحييد مؤسسات الحكومة والشعب العراقي، وتأجيل الخلافات وحصرها بالجانب الفقهي الاجتهادي تحت مظلة الوحدة الاسلامية، الا أن جهوده اصطدمت بصخرة صمّاء لا تعي ولا تفكر.
وكما في الحالة الاسرائيلية الأولى، لا يمانع "حزب الله" من قبول وجود التكفيريين كأصحاب فكر سلفي، ومشكلته فقط في التكفير، أي السلاح الحقيقي المهدد للوجود الشيعي.
هنا مربط الفرس فعندما نؤسس لسياساتنا دينياً، لا يعود بالإمكان التراجع لأنه يصبح تنازلا عن الدين نفسه، وهذه مشكلة "حزب الله" وايران مع اسرائيل، ومشكلة التكفيريين مع الشيعة، ومشكلة الإسرائيليين التوراتيين مع الشعب الفلسطيني.